ذكرى كتاب … بقلم: حسين بافقيه

 ذكرى كتاب … بقلم: حسين بافقيه

قلتُ لأستاذي الدُّكتور عبد المحسن القحطانيّ: ليتني أقرأ عليك كِتاب (الوساطة بين المتنبِّي وخُصُومه) للقاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ!
وكنتُ أُذَكِّره بمقرَّر جامِعيّ اسمُه “كِتاب قديم”، وكان مِنَ المفترَض أنَّ الدُّكتور عبد المحسن سيُلقي علينا دُرُوسًا في الكِتاب، والأدقّ أنْ نقرأ عليه، أوْ نقرأ معًا، كِتاب (الوساطة بين المتنبِّي وخُصُومه) للقاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ (ت ٣٩٢هـ)، لولا عارِضٌ صِحِّيٌّ أَلَمَّ به، فغاب عن الجامِعة والدُّرُوس، وصارَ أمر المقرَّر إلى أستاذنا الدُّكتور عليّ البطل – رحمه الله –
قال الدُّكتور عبد المحسن للطُّلَّاب في الدَّرس الأوَّل: إنَّنا سندرس، معًا، كِتابًا قديمًا مِنْ تراثنا الأدبيّ والنَّقديّ، وأتاح لنا اقتراح كُتُب، ثُمَّ اختيار أحدها لقراءته ومُدَارَسته والتَّحاوُر فيه، وأذكر أنَّني اقترحتُ كِتاب (الموازنة بين الطَّائيَّين) لأبي القاسم الحسن بن بِشْر الآمديّ، لكنَّ أستاذنا قال: رُبَّما كان (الوساطة) أنسب؛ لتأخُّره عن (الموازنة)؛ ولأنَّه يَجْمع كُلَّ مسائل النَّقد حتَّى زمن صاحِبه في القرن الرَّابع الهجريّ، وهذا حَقّ.
لَزِمَ أستاذُنا البيت، وقرأنا (الوساطة) على الدُّكتور عليّ البطل، وكُنَّا نقرأ مِنَ الكِتاب فُصُولًا، وكان أستاذُنا يُمِيط اللِّثام عنْ مَعانيه، ويُقرِّب مَقاصده إلى أذهاننا، ويُحاوِرنا حول ما فيه مِنْ شِعْر للمتنبِّي أوْ لسواه مِنَ الشُّعراء، على وَفْقِ ما تقتضيه دُرُوسُ الجامِعة.
كانتِ المادَّة جيِّدة، وطريقة دراستها والتَّحاوُر في الكِتاب ملائمةً لطلبةٍ يدرسون اللُّغة العربيَّة وآدابها، وكان، مِنَ المُناسِب أن يقفوا على لُغة ذلك التُّراث، وينظروا في أثناء كِتابٍ معدودٍ في أمَّهات التُّراث النَّقديّ، ويَمْرنوا على أساليب أسلافنا في العرض والحِجَاج والمجادَلة والخُصُومة، حتَّى إذا أتمُّوا الكِتاب، أوْ ما تيسَّرَ مِنْه، كانوا أدنَى إلى أن يَعْرِفوا التُّراث، إذا ما مَضَوْا فيه.
والحَقُّ أنَّ أسلوب الدُّكتور عليّ البطل كان سهلًا يسيرًا، ملائمًا، ويُخَيَّل إليَّ أنَّه سَرَّه أن يُعْهَد إليه بهذا المُقرَّر، دون أن يخطَّط لذلك، ولستُ أستبعد أنَّ تلك الدُّرُوس كانتْ أوَّل عهده بالقاضي الجرجانيّ وكِتابه العظيم، ولعلَّه استأنَسَ بمَراجع تقوِّي صِلته بالنَّقد الأدبيّ القديم، فكان ذلك خيرًا له.
لمْ يُرِدِ الدُّكتور عليّ البطل أن يَمُرَّ بـ (الوساطة) مُرُور الكِرام، فلمَّا نَظَّمَ نادي جُدَّة الأدبيّ ندوة “قراءة جديدة لتُراثنا النَّقديّ” (١٤٠٩هـ = ١٩٨٨م)، كان البحث الَّذي شارك فيه الدُّكتور البطل موضوعُه ذلك الكِتاب.
ويغلبُ على الظَّنِّ أنَّ ذلك البحث إنَّما هو، في وجهٍ مِنْ وُجُوهه، صورة للقلق الذي يعتلج في صُدُور المشاركين في تلك النَّدوة، وما يعيشه الدَّرْسُ النَّقديُّ مِن اضطرابٍ، فنحن، آنئذٍ، في عصر “المشاريع الفكريَّة”؛ وكان “تجديد التُّراث وقراءته” عنوان تلك الحِقبة، واستعارَ نفرٌ مِنْ أساتذة النَّقد في الجامِعات العربيَّة شيئًا مِنْ تلك “المشاريع” – أوْ لعلَّهم اهتدموها! –
كان الدُّكتور عليّ البطل واحِدًا مِنْ أولئك الأساتذة الطَّامِحين، وكان بحثُه مِثالًا للقلق والاضطراب؛ عالَجَ ضربًا مِنَ الدَّرس النَّقديّ لمْ يَكُنْ – فيما يَظهر لي – قدْ أَعَدَّ له عُدَّته، ولمْ يُحْكِمْ ما نَهَدَ إليه، يقوِّي ذلك أنَّ الجزء الأوَّل مِنْ بحثه كان أمشاجًا مِنَ التَّاريخ، والسِّياسة، والاقتصاد، والفلسفة، والفكر، يُنْبِئ ظاهِرُها عنْ تَبَصُّر صاحِبه بمسائلَ في الفلسفة والتَّاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، لكنَّك لا تكادُ تَمضي، يسيرًا في قراءته، حتَّى تدرك أنَّك إزاءَ باحِثٍ “هَجَمَ” على موضوعه دُونَ أن تُسْعفه أدواتُه؛ فهو حديث عهدٍ بالنَّقد القديم، وهو، كذلك، رقيق الصِّلة بمسائل الفِكر، وتيَّارات الفلسفة ومَنازعها في تراثنا، لكنْ علينا أنْ نتذكَّر، مَرَّةً أخرى، أنَّ تلك الحِقبة التي اجتمع فيها أولئك النُّقَّاد والأساتذة فُتِنَ فيها القوم بأقاويل “قراءة التُّراث”، و”تجديده”، و”مُساءلته”، وكانتْ مقولات محمَّد عابد الجابريّ، وطيِّب تيزينيّ، وفهمي جدعان، وحسين مُرُوَّة تَبُثُّ في ضمائر أساتذة الأدب “حِطَّةً” [= مُرَكَّب نَقْص]، لوْ لمْ يُصِيبوا شيئًا مِنْ مائدتهم، فكان بحث عليّ البطل صورةً لذلك الاضطراب، ومِثالًا لما فيه مِنْ قَسْرٍ وتخليط، وضعف في الآلة والأداة، ويُخَيَّل لي أنَّه كان عليه أن يشارك في النَّدوة، بأيِّ وَجْه، فنظر حَوَالَيْه فأمسك بكِتاب القاضي الجرجانيّ بكلتا يديه، لموافقته موضوع النَّدوة، حتَّى إذا أَتَمَّ كلامه في مسائله ومشكلاته، مِمَّا هو شائعٌ معروف، رجع إلى نَفْسه وأخذها بتدبيج تمهيدٍ يُنْسِي طُوله عنوان البحث وموضوعه، كان فيه عِيالًا على الجابريّ، وتيزينيّ، وأحمد صادق سعد – وعلى هذين الأخيرين خاصَّةً! – وشَرَعَ في حديثٍ مبتوت الصِّلة بالقاضي وكِتابه، يَرُوعُنا ما فيه مِنْ كَلِمٍ في الاقتصاد الزِّراعيّ، والاستبداد السِّياسيّ، وثورات الفَلَّاحين، وتَبادُل البضائع، والرَّسْمَلة [مِنْ رأس المال] = وأنساه تلخيص ما قرأ تحويل التَّاريخ الميلاديّ إلى التَّاريخ الهجريّ، وكأنَّنا لا نزال نقرأ في كِتابٍ لطيِّب تيزينيّ، أوْ لأحمد صادق سعد، أو لبيري أندرسون، وهُم مِنْ مراجعه! فلمَّا أَتَمَّ بحثه – أوْ تلخيصه – عادَ أستاذُ الأدب القديم إلى نَفْسه، ولاذَ بطبيعته، فأنشأَ بحثًا لا يختلف عمَّا نقرأه في الكُتُب الجامِعيَّة التي يُرادُ مِنْها تقريب التُّراث النَّقديّ للطُّلَّاب والدَّارسين، وإذا بنا نقرأ كلامًا غير جديد في ندوةٍ أُرِيدَ لها أنْ تَكُون “قراءة جديدة لتراثنا النَّقديّ”، ولمْ نَظْهَرْ، في هذا الجزء، على كَلِمٍ مِنْ وادي “نَمَط الإنتاج الآسيويّ”، وليس ثَمَّ “بنية اجتماعيَّة” ولا “اقتصاديَّة”، ولا “رَسْمَلَة الإنتاج”، وسواها مِمَّا يَرُوعُ ويَخْلُب!

جُدَّة في ٢١ مِنْ ذي القعدة ١٤٤٣هـ

شاركها على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.