خطاب اللحظة الحرجة… كباشي يوجّه البوصلة !!
بقلم/عبد الله اسماعيل
في لحظة فارقة من عمر الدولة وحين يحتدم الضجيج ويضيع الصوت الوطني بين زحام التحليلات والتأويلات اختار *الفريق أول شمس الدين كباشي* نائب القائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس السيادة أن يصمت. صمتٌ لم يكن فراغاً بل كان موقفاً. رجل عُرف محلياً ودولياً بتصريحاته القوية التي تعيد رسم معالم المشهد السياسي والأمني للبلاد.
وقد طال هذا الصمت حتى ظنه البعض غياباً عن الفعل إلى أن جاء ظهوره الأخير لا في مؤتمر صحفي أو لقاء إعلامي بل في اجتماع مغلق ضم ولاة الولايات ووزراء الحكومة المركزية *فكان ظهوره في مقام التوجيه وخطابه في مقام الدولة*. حديثٌ تميز بالدقة والوضوح صادر عن رجل يعرف أن الكلمة حين تُقال في اللحظة المناسبة قد تكون أبلغ من ألف تصريح.
غيابه عن الإعلام أثار لغطاً واسعاً وفتح أبواب التكهّنات على مصراعيها حيث لم يتوانَ البعض عن الإيحاء بوجود خلافات داخل المؤسسة العسكرية أو توترات مكتومة في هرم القيادة. غير أن كباشي- *حين اختار أن يعود عاد كما عهدته الساحة: صريحاً، واثقاً، محكماً كلماته بميزان المرحلة وخطورة التوقيت*. خرج ليحيّي جهد *القائد العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان* مؤكداً أن ما لديه ليس جديداً بقدر ما هو استكمالٌ للأسس التي وضعها البرهان واضعاً بعض “الخطوط العريضة” فوق خريطة الوطن المضطربة بالحرب القذرة.
ولأن الصمت حين يطول يُنتظر من بعده القول الثقيل – تناول *كباشي* قضايا الساعة.. تلك التي تتقاطع فيها دماء الحرب بعرق التنمية حيث لا تنمية بلا أمن ولا أمن دون وعي بحجم التهديد. *ربط الجنرال* بين استتباب الأمن واندياح الخدمات مؤكداً أن الحياة تبدأ من حيث ينتهي الخوف.
لم يتحدث صراحة عن حالة الإحباط التي اعترت القلوب جراء سقوط النهود *لكنه أشار بذكاء عسكري إلى التغير النوعي في وضع الجيش* مقارنةً بيوم الهجوم الغادر حين داهمت المليشيا العاصمة وحاصرت المعسكرات وقادة الجيش داخل القيادة العامة وبين يوم الناس هذا حيث حررت القوات المسلحة الخرطوم إلا أجزاءً من أم درمان كما نظفت سنار والجزيرة والنيل الأبيض وكردفان. أراد *كباشي* أن يقول للمواطن*: صبركم يوم أن كنّا محاصرين دليل وعيكم وثقتكم في جيشكم فكيف اليوم وأنتم ترون الجيش يضرب العدو بيد من حديد؟ إنها طمأنة مبطنة، ثم إن الحرب كرٌّ وفر….
وفي قراءة واعية للمشهد المجتمعي.. *تناول كباشي المقاومة الشعبية* مثمّناً دورها وداعياً لتنقيتها من الشعارات والانتماءات الضيقة. فالدفاع عن الوطن من وجهة نظره يجب أن يكون خالصاً للوطن لا وسيلة للتسويق السياسي ولا ذريعة لشرعنة كيانات موازية للدولة. *تلك رؤية تحفظ للجيش هيبته* وللمجتمع وحدته وتقي البلاد شر الانزلاق نحو عسكرة غير منضبطة أو انفلات ميداني تحت مسميات فضفاضة.
ولأن الحرب لا توحّد فقط بل تكشف ما كان كامناً تحت السطح لم يغفل *كباشي* ظاهرة تصاعد الخطاب القبلي والجهوي بعد اندلاع الحرب مشيراً إلى أن بعض القوى استغلت تأثيرها لتصفية حسابات أو توجيه الإساءات إلى مكونات منضوية تحت لواء الجيش. *وحذّر من أن النزعات العنصرية هي وقود الفتن وسبب أزمات السودان الكبرى وهي الخطر الحقيقي على وحدة الصف الوطني واستمرار الدولة.*
وكأن *كباشي* قد تنبأ بالقصف الجوي الذي نفذته مليشيا آل دقلو على *مطار بورتسودان* فجر اليوم إذ تطرق امس إلى فداحة خطر المسيّرات واعداً الشعب أن ذلك الخطر في طريقه للزوال حيث أشار إلى أن *القوات المسلحة باتت أقرب إلى تحييد هذا التهديد الذي أرعب المدنيين وعطّل الخدمات الحيوية.*
كما *وجّه نداءً واضحاً إلى ولاة الولايات طالباً منهم تفعيل دور الشرطة لتخلف القوات المقاتلة في ارتكازات المدن الآمنة حتى تتفرغ الأخيرة للجبهات الأمامية التي تتطلب وجودها*. وشخّص سبب الفوضى في بعض المناطق الخاضعة للجيش. مرجعاً إياها إلى ضعف التغطية الأمنية وانتشار السلاح وهو تحدٍّ مستقبلي لا بد من مواجهته بسياسات صارمة.
وفي واحد من أكثر المواقف حساسية ألقى *كباشي* الضوء على “*التنسيقيات*”، تلك الكيانات التي فرضها واقع صنعته المليشيا حين جرّت بعض القبائل إلى صراع لا يعنيها طمعاً في شرعية موهومة. *وأكد أن مجلس السيادة لن يسمح بإنتاج كيانات اجتماعية جديدة* موجهاً بتقوية الإدارة الأهلية لتلعب دورها الطبيعي في حفظ النسيج الاجتماعي، مشدداً على أن لا بديل عنها وإن شابها القصور.
*رأس الخيط*.. لم يكن خطاب الفريق أول كباشي مجرّد عودة بعد غياب ولا خروجاً إعلامياً محسوباً بل كان حديثاً في حضرة مسؤولي الدولة التنفيذية. وبيان موقف في لحظة ارتباك. *هو حديث رجل دولة* يعرف متى يصمت ومتى يتكلم وكيف يصوغ رسائل الطمأنينة في قالب من الصرامة والواقعية.
*لقد وجّه كباشي* كلماته إلى من تقع على عاتقهم إدارة المعركة داخلياً سياسيًا وأمنياً وخدميًا فتلقّاها الناس كما تُتلقى الخلاصات الحاسمة. لقد تحدّث *كباشي*… فاستعاد الناس البوصلة.