المسكوت عنه في تاريخ المهدية

٢
المسكوت عنه في تاريخ المهدية _ المك آدم ام دبالو و المهدية _ دروس وعبر
بقلم : د. خالد مصطفى إسماعيل
المك آدم ام دبالو هو المك الخامس عشر  في سلسلة مكوك مملكة تقلي ما بعد الإسلام التي تأسست حوالي عام ١٥٦٠ م.
وقد حكم في الفترة من (١٨٥٩ _ ١٨٨٤م )، واكتسب المك آدم ام دبالو شهرة عالية  بسبب حمايته للمهدي والثورة المهدية التي غيرت مجرى تاريخ السودان، فلولا المك آدم ام دبالو لما قامت للمهدية قائمة، ولماتت المهدية في مهدها، ولاتخذ تاريخ السودان مساراً مختلفاً غير المسار الحالي.
فالمهدي جاء إلى تقلي في حالة من الضعف الشديد ، لا يملك شئ الا إيمانه بثورته، فاعطته تقلي كل شئ، المال والرجال والسلاح والمخابئ و التكتيكات الحربية، وناصرته حتى انتصر بالرغم من إيمان اهل تقلي بأن محمد أحمد هذا ليس بمهدي ولكنه رجل دين وثائر وطني، وقالوها له صراحة ( انك ليس بمهدي ولكنك تهدي).
مساحة المقال لا تسمح بالسرد التاريخي المفصل ولكن هناك دروس وعبر يجب أن تؤخذ من التاريخ، حتى لا يعيد التاريخ لنا نفسه كمأساة. فألمك آدم ام دبالو الذي حمى المهدي والثورة المهدية وغير مجرى  تاريخ السودان كان جزاءه سنمارياً، فقتلته  المهدية نفسها التي ناصرها، وصدق من قال ان الثورة تاكل أبنائها، وأحياناً تأكل أبائها أيضاً .
عندما جاء المهدي إلى تقلي لأول مرة في مرحلة دعوته السرية وادعى بأنه المهدي المنتظر، جمع  المك آدم ام دبالو علماء تقلي ، وكون  لجنة من علماء الدين لمناظرة المهدي، و تبيان امر هذا الرجل للمك، تمت المناظرة واستعرض المهدي كل ما لديه من العلم الظاهري والباطني لاثبات مهديته ولكن لم يقتنع العلماء بمهديته، ومن العلماء من اتخذ موقفاً عدائياً تجاه المهدي، ومنهم من اتخذ موقفاً توافقياً فقالوا هذا الرجل ليس بمهدي ولكنه مصلح ديني وابن بلد يجب على المك دعمه.
رجع العلماء الي المك بهذه الاراء، فاستمع المك الي المهدي مباشرة، فأسر له المهدي بأنه سيقود ثورة ضد الأتراك ويريد من منه يحميه  اذا هاجمته قوات الأتراك، وافق المك ام دبالو  على ذلك بشرط ( أن لا يمس المهدي تقلي بسوء حال انتصار ثورته).  وانتهز المهدي هذه الفرصة وكانت فرصة ذهبية لان مملكة تقلي كانت خارج سلطة الأتراك، وتتمتع بمواقع جغرافي ممتاز، وحصون منيعة، ولم يستطيع الأتراك هزيمتها وضمها إلى سلطتهم رغم ان  الأتراك حكموا كل السودان لمدة تزيد عن الستين عاماً.
رجع المهدي إلى الجزيرة ابا بهذا الوعد الثمين، وأعلن انه المهدي المنتظر ودخل مع الأتراك في معركة مسلحة في الجزيرة ابا وهزمهم ثم توجه مباشرة تلقاء تقلي خائفاً من ملاحقة الأتراك له في الجزيرة ابا لأنها منطقة مكشوفة وكان اتباعه قليلين جداً. فدخل إلى تقلي واواه المك في الجبال الحصينة في منطقة   تعرف ب ( بطن امك)، وعندما جاء حاكم كردفان محمد سعيد ( جراب الفول) مطارداً المهدي للقضاء عليه ودخل أرض تقلي ارسل له المك آدم ام دبالو خطاباً جاء فيه : ( دخلت ارضنا من غير اذننا فارجع وعليك دفع غرامة) فامتثل حاكم كردفان لأمر المك ودفع غرامة ورجع الي الأبيض.
تخيلوا لو ان مك تقلي لم يسمح للمهدي في تلك اللحظة بالدخول الى أرض تقلي وتركه يواجه مصيره المحتوم مع الأتراك، ماذا كان سيحدث للثورة المهدية، و لتاريخ السودان؟! .
دخل المهدي إلى تقلي وخاض كبرى معاركه فيها ، معركة راشد بك، و معركة الشلالي وهزم جيش الأتراك هزائم نكراء وقضى على اي متحرك لجيش الأتراك، كل ذلك وجيش مملكة تقلي هو   الذي يقاتل. ثم بعدها ازداد عدد جيش المهدي و تحرك المهدي واسقط الأبيض وبارا وانتشرت الثورة في كل السودان.
ولان السودان منذ القدم أدمن ( نقض المواثيق والعهود)، فبمجرد ما تحرك المهدي نحو الأبيض نقض العهد والاتفاق الذي بينه وبين المك آدم ام دبالو ( أن لا يمس المهدي تقلي بسوء حال انتصار ثورته)، فطلب من المك ترك المملكة ومصاحبته الي الأبيض وتسليمه كل مقتنيات المملكة من السيوف وأدوات الحرب ، عندها احس المك آدم بالخيانة وانه اساء التقدير لهذا الرجل ، فرفض الامتثال لأمر المهدي، ولما فتح المهدي الأبيض ألح على المك ام دبالو   بالحضور لمقابلته فقرر الذهاب إلى الأبيض لمقابلة المهدي وسط معارضة علماء الدين في تقلي الذين نصحوه بعدم الذهاب، ولكن المك ام دبالو أصر على الذهاب واصطحب معه بعض أبناءه وجزء من رجال الدين منهم القاضي ميرغني ود تميم قاضي المملكة، والشيخ إسماعيل البصيلي، والشيخ دفع الله ود بقوي، فلما وصلوا إلى الأبيض وقابلوا المهدي تم اعدام القاضي ميرغني ود تميم مباشرة لانه لم يعترف بمهدية المهدي منذ البداية عندما حاوروا المهدي في تقلي في بداية الدعوة المهدية،وكان معارضاً للمهدي بشدة، وتم وضع المك آدم دبالو، والشيخ إسماعيل البصيلي، والشيخ دفع الله ود بقوي في الاصفاد وقيدوهم بالسلاسل، واهانوهم، كما تم تسميم أبناء المك ام دبالو فمات اثنين أو ثلاثة منهم، ثم تحركت قوات المهدية من الأبيض  نحو الخرطوم لفتحها ، ولما وصلوا إلى الجوقان ناحية ام روابة توفى الشيخ اسماعيل البصيلي ودفن هناك، ولما وصلوا إلى مناطق ( الجمع) مرض المك ام دبالو مرضاً شديداً فاستأذن عساكر ابو كلام زعيم الجمع المهدي بأن يبقى المك ام دبالو معه لعلاجه ثم اللحاق بهم، فاذن له المهدي بذلك، ولكن كانت الاقدار اسرع فمات المك آدم ام دبالو متأثراً بظروف الأسر و الاعتقال والإهانة والإهمال تحت القيود والسلاسل الحديدية التي كانت تكبله، ودفن في ( ام حجر) بالقرب من تندلتي ( له الرحمة والمغفرة والخلود) .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد  فبعد فتح الخرطوم ارسل المهدي وخليفته عبد الله التعايشي حملة كبيرة ضد تقلي يقودها حمدان ابوعنجة، ومعه موسى ود الدكيم، والنور عنقرة، و الزاكي طمل فعاسوا في الأرض فساداً  قتلاً وتشريداً واستعباد ( ولم يتركوا بطنا باردة في تقلي) كما يقول الناس، اي تركوا غبناً في كل دار تقلي. ويقال انهم قتلوا اثنان واربعون رجلاً ، وفي رواية أخرى مائة رجل  من أفراد العائلة المالكة فقط في يوم واحد ( ١٠٠ انسان)، وهذا ما يسمونه بلغة اليوم ( الابادة الجماعية) و الاستهداف الاثني، فعائلة المك التي حمى الثورة المهدية نكل بها ايما تنكيل، ولم يقتصر القتل على عائلة المك وحدها بل قتلوا كل  من وجدوه أمامهم ونهبوا كل شئ له قيمة كان في طريقهم، واستعبدوا من استعبدوا، ومن فنون القتل الوحشية التي كانوا يفعلونها حسب ما يحكونه الحبوبات انهم كانوا ( ياخذون الطفل من أمه ثم يقذفونه عالياً ثم يتلقونه بالحربة فتبقر بطنه ويموت أمام أمه، وهم في حالة  تلذذ بهذا القتل).
ورغم ذلك فقد صمد مكوك تقلي الذين بقوا في تقلي صموداً  جميلاً ولقنوا قوات حمدان ابوعنجة دروساً في الحرب وفنون القتال وهزموهم في عدة معارك.
منهم المك عبد الله الكبجن، والمك على ود آدم ام دبالوا، والمك عدلان، تولوا التصدى لقوات حمدان ابوعنجة وقد نجحوا في ذلك ولم يتركوا تقلي تنهار. وكانوا يستخدمون تكتيكاً حربياً رائعاً، ( فكانوا يهاجمون قوات حمدان ابوعنجة ويتظاهرون بالهزيمة ويتراجعون إلى أعلى الجبال فتطاردهم قوات حمدان ابوعنجة للحاق بهم، ونتيجة لأنهم يجيدون تسلق الجبال يصعدون سريعاً الي أعلى الجبل عندها تكون قوات ابوعنجة في منتصف الجبل فيدحرجون عليهم الحجارة الكبيرة فيسقط الحجر الواحد ويقتل عدد من قوات ابوعنجة، بعدها ينزلون ويغنمون منهم  السلاح) وهكذا قاوموا إلى أن انسحبت قوات حمدان ابوعنجة من الجبال.
ومن سخرية القدر ان الخليفة عبد الله التعايشي بعد هزيمته في معركة كرري وسقوط الدولة المهدية  لم يجد  مكاناً يلتجأ اليه  الا تقلي، ففر هارباً  متوجهاً تلقاء تقلي متقفياً آثار المهدي القديمة ، ولكن تقلي المثخنة بالجراح حينها من أفعاله وسياساته الانتقامية صدته ولفظته و جعلته يهوم على وجهه، فتاه في الأرض وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفي آخر المطاف فرش فروته ( الفرشة الاخيره) على تخوم تقلي في ( ام دبيكرات) ،  وانتظر الموت في استسلام تام ومات موتته الشهيرة في ام دبيكرات وبذا انتهت الدولة المهدية. وتعافت تقلي بعدها، وتم إعادة بنائها بواسطة المك ( جيلي مصطفى) ود المك آدم ام دبالو المغدور به، ووقع المك جيلي مصطفى اتفاق مع الإنجليز، وفيما بعد تحولت المملكة إلى مجلس ريفي ( مجلس ريفي تقلي) ضمن المجالس الريفية التي انشأها الحكم الثنائي في السودان.
ومن نكران الجميل في هذا السودان ان أبناء المهدي و احفاده  الذين حكموا السودان عدة مرات، وظلوا حضوراً في المشهد السياسي السوداني منذ ذلك الوقت، لم يعيروا تقلي اهتماماً، فهمشوها رغم أنها كانت سبباً في كل ما وصلوا اليه حتى الآن، والسلام.

شاركها على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.